U3F1ZWV6ZTQxOTk0ODg5NDUwMzQyX0ZyZWUyNjQ5NDAwNzU5OTU2NQ==

الصحن الهوائي المعاكس.. قصة

 



 بخطى متثاقلة كان يصعد سلالم عمارة السلام، كأنه يعدها لأول وهلة، وهو الذي أحصاها وعدها عدا آخر مرة في نحو 21 درجا. فجأة تناهى إلى مسامعه أصوات نسوة في سطح العمارة، كعادتهن يغمزن ويلمزن ويطلقن ضحكات يدوي لها المكان، فأطلق "جمال" العنان لسمعه تحسسا وتجسسا، حينها فهم من فحوى الكلام أنه موضوع مائدة دسمة للغيبة النسائية. 


تسمر الشاب الجميل الأفلج الأسنان، قرب باب السطح. فسمع مريم تتفل كمن مضغ قطعة حنظل وبزقها على جنب، وتقول: "الحقير! جمال صوب صحنه السطحي في اتجاه القمر الصناعي "هوربورد". ضحكت سعادة حتى اندلفت خالة الجمال على خديها، ساخرة من فرط جهل مريم "أيتها الحمقاء اسمه هوت بيرد" قالت سعادة مصححة معلومة مريم.


أيا كانت تسمية القمر الصناعي، فإن كل الصحون الهوائية متجهة وجهة الشرق، إلا صحن جمال فهو متجه وجهة الغرب اللعين" زادت سعادة، وأما العجوز رقية فلم تعرف ما تقول في موضوع بعيد عنها بعد الصحون الهوائية عن باب العمارة، فهمهمت لتوحي للحضور أن لها دلو تدلي به في الموضوع، لكن الجهل يصرخ في وجهه بقساوة.


وهو هائم في بحر من الأفكار الهائجة، حاول جمال تمالك نفسه بصعوبة، فكر في الوهلة الأولى بأن يرمي نفسه في السطح ويضرب بالنعل والخف وكل ما تصل إليه يده، لكنه ظل متسمرا في مكانه، ولم يزحزحه شيء إلا خفقان حذاء نجاة التي ارتقت للسطح كي تشارك في الوليمة الدسمة.


مشت نجاة ببطء وعند الدرج التاسع حيث تنحرف الزاوية نحو السطح، انسل جمال قافلا إلى شقته، فالتقى بنجاة في تقاطع الدرج التاسع مع العاشر بالتحديد، فهو لا تخفى عنه الأرقام ولا التفاصيل الصغيرة، ومن دون أن تلاحظ أنه كان يسترق السمع لنسوة السطح انسحب دون أن يعبأ بشيء إلا ما علق  في ذهنه من نميمة النساء. 


بلغت نجاة السطح ومن دون أن تلقي السلام قالت لقد اتقيت بجمال في السلاليم، أتراه كان له غرض عندكن، فلم يكن في يده لا غسيل ولا دلو، فقلن في ما يشبه اتفاق الدائنين: آه لقد تلصص علينا من جديد، إنها عادة فجة فيه منذ أن اشترى شقته في العمارة". ومن دون أن تعبأ بكلامهن جلست تمسح على رأس هر مسطح على كوم قش، استمرت في ملاعبة القط حتى سرت قشعريرة على وبره، فانتصب القط وارتعش، وقالت: جمال سيد الرجال، لم نر منه إلا الخير العميم، حتى أنه كان يساعد أبناءنا على المذاكرة، ويحبب إليهم الدراسة، وعند كل فاجعة نجده في الصف الأول. فماذا دهاكن؟


أكبرت النسوة ما قالته نجاة، فارتسم على وجوههن الغضب، وطالبنها بالسكوت، فدخلت المسكينة المعروفة بإحساسها الرهيف في دوامة صمت طويل. وبينما هي غارقة في بئر لا قرار له، اتفقت النسوة على مكيدة جميلة تبعد جمال عن العمارة. في المساء همسن في آذان أزواجهن بإشاعة تحرش جمال بنساء من العمارة.


أين المخرج يا جمال؟ كان يسأل نفسه بعد أن وصله كيد النساء من جارته نجاة. ولكي يقلب كيدهن انتصارا ويقطع نميمتهن بالنبأ الصحيح، ارتقى في ليلة مقمرة السطح وألصق جميع الصحون الهوائية بقضيب حديدي. لقد شل حركة انحراف الصحون من "نايل سات" إلى "هوت بيرد"، فازدحم السطح بمن كانوا يحترفون مهنة تحريك الصحون تحت جنح الظلام.

 

واتفق لجمال أن يدخل صديقه المحامي بدر الدين عله يدفع عنه مكيدهن. اشتهر المحامي بعداوة سابقة مع أهل عمارة السلام لسابق صراع، وما أكثر صراعات المحاكم! ولفطنة المحامي بدر الدين فقد سأل جمال، هل لفت نظرك شيء يمكن أن نبني عليه القضية؟ 


قال جمال، أي نعم. ضجيج يصدر عن صحونهم الهوائية ليلا ويقظ مضجعي، وأنا القاطن تحت دكة الصحوان الهوائية. ولفرط ذكاء بدر الدين بحث في كل ثغرات قوانين الدنيا من حمورابي مرورا بالقوانين الفقهية إلى المنظومة الدولية، واتجه صوب الاجتهاد القضائي وناحية النوازل المماثلة. فمن الأحكام المتعلقة بناقوس الكنيسة إلى مكبرات صوت المساجد ثم الرقص في سطوح المنازل. أخيرا وجد حكما في النرويج عن سيد نبيل كانت يتسبب له تحريك الصحون الهوائية في صداع نصفي فقضت المحكمة بإزالتها من ناحيته. 


فرح بدر الدين بالحكم، وهرع عند جمال طالبا منه البشارة. ضمّن المحامي الحكم إلى ملف الدعوى. في يوم المحاكمة اصطف الفريقان في ناحيتي المحكمة. وأما بدر الدين فكان يشدد على القضاة في كل مرافعة من مرافعاته على سلوك مسلك الاجتهاد القضائي النرويجي. 


فتش القضاة وأمعنوا النظر في القوانين. وكأنهم يقولوا: أحتى تحريك الصحون الهوائية يحتاج إلى إذن وقانون؟ قاطع بدر الدين إطراقهم في البحث والتنقيب بسؤاله: هل يوجد ضرر؟ ثم أعقب السؤال بجواب: نعم! ليستنتج أن الضرر يستتبع التعويض. 


امتدت المحاكم ساعات وساعات، فكان لبدر الدين ما أراد. وحكم القضاة على القوم برفع الضرر. لقد أُسقط في يد القوم وانكشفت أسرار الصحون، وانفضحت إشاعة التحرش. استسمحه القوم فسامحهم، وأما المحامي فقد استأجر مكتبا في العمارة، وصار هو محامي عمارة "السلام". 

الكاتب: عبد الله أموش

تعليقات
تعليقان (2)
إرسال تعليق
  1. بوركت أناملك
    اقتحمت الطابوهات بفن أدب القلم

    ردحذف

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة