كان يَغطُ في نوم ثقيل، لم يترك فيه أي حديقة إلا قطف من وردها، ولا ينبوعا إلا وارتوى من معينه، ولا منظرا إلا ونسج عنه ألف لوحة ومائة حكاية. طال به الرقود حتى ظن ألا يقظة منه إلى الخلود السرمدي الأزلي، فانقطعت به حدود الزمان وخانته فواصل المكان.
"رشيد" أخيراً رجع! فتح عيناً على سيدة فاتنة عارية ممدودة، وعيناً أخرى على مصور يوثق لحظة حميمية. ما فركَ عينه الأولى لاتصالها بحلم يرفض أن يَقوم منه. لكنه فركَ الثانية المضببة حتى انجلى العمش عنها فبانت له عدسة مصور قُدامه. حينها انفرط ما بين الحلم واليقظة من اتصال.
شَرعتْ حواسه في التقاط الإشارات والأصوات والنبرات، "أنت موقوف بتهمة الخيانة الزوجية"، قال رجل أمني بزي مدني. عبثاً حاول أن يدفع عنه تهمة ما كان ليرفضها لو كانت في عالم الأحلام. فمعايير ذلك العالم مختلف والبراءة منها بانشراح في الصدر وقِدح ماء. لكنه وجد نفسه في بحر لُجي متلاطم الأمواج وعاتي الأعاصير والدوامات.
آه! لو كان الأمر حقيقياً وذُقْتَ من عَسِيلتها، على الأقل تَكُون قد اغتنمتَ شيئاً ذا قيمة تُملي به نفسك في دهاليز الجب القابل، لكن الآن تذهب إلى السجن على أمر لم تقترفه، ولم يتحقق لا في كنف اليقظة، ولا في فلك الأحلام. آه! سَتنكسر سمعتك، والسمعة زجاج، على مستصغر لم تقدم عليه. لقد جال كل هذا الحوار في خاطره في تلك الأثناء.
حاول "رشيد" التمادي في الإنكار غير أنه سمع شرطية شابة تحمل أصفادا حديد، وهي تقول: "كل ما ستقوله سيُستعمل ضدك في المحكمة". عندئذ آثر الصمت، فأَخرجوهُ بعد إتمام المسطرة. رَكبَ سيارة الشرطة، وعلى طول الطريق، أسمعته الشرطية "لميس" سباً تتدرج دركاته من أعلى الرأس إلى أخمص القدم.
كَادَ فؤاد أمه "خيرية" أن ينفطر من وقع الخبر. أما زوجته "حليمة" فكانت تنتظر يوم مقابلته حتى تغرس فيه الناب والظفر، "أتخونوني مع عاهرة رخيصة"، جَال كل ذلك وأكثر في خُلدها، لكن في اللقاء وقع غير ذلك، فبإشارة واحدة استحال البغض حبا؟ ماذا وحدث؟
لقد أَومأ لها بإشارة حيرت السجان والشرطي والعساس. سألها عميد الشرطة: هل تسامحينه فيذهب؟ أم تمتنعين فيبقى؟ لقد وضعها السؤال بين أَخشبين، إن هي سامحت خَرج وقَامت عليه الحجة، وإن هي رَفضت بقي في المعقل وحُوكم بالخيانة. فكرت فتمعنت ثم سكتت، بعدها قالت: "لن أسامح! وللمحكمة حسن التقدير".
هَرعت "حليمة" إلى البيت ففتشت ونقبت وقلبت حتى وجدته. أَخذت جهازاً عرفت منه الحقيقة. وتتبعت منه القضية من الدخول حتى المغادرة. وشافت فيه الصغيرة والكبيرة. ثم انطلقت كالرصاصة في مدلهمات الليالي لتلتقي شخصا من جمعية، فالهيئة ثم الصحيفة، وتقاسمت معهم الشاردة والواردة، فاطمأنت ليوم المحاكمة.
في يوم نادى المنادي: "محكمة!"، ضجت ردهات القاعة بالحضور. كانت "حليمة" تحذق في زوجها "رشيد" وتشير إليه بإشارة غير مفهومة. امتدت المحاكمة نحو ساعة. وراح القاضي يوزع الكلمات والمداخلات والاعتراضات. حينها رفع المحامي "أيوب" مشاهد لهيئة المحكمة، وكانت لقطات منها متداولة في وسائل التواصل الاجتماعية خارج أسوارها.
شَريطٌ طويل يروي القصة من زاوية أخرى، رجال يتقدمون فيفتحون الباب بمفك حديدي، يَدخلون المنزل ثم تتعرى سيدة معهم، وأخيراً تنام قرب "رشيد" النعسان، وتَبدأ الكاميرا في التصوير، و"رشيد" هذا من هو؟ "مناضل" حنكته الأيام، والجري في الميدان، والتفوق في التقانة، ومراودة الذكاء الاصطناعي، فما كانت لتنطلي عليه الصناعات التركيبية.
أُسقط في يد القاضي، فالمشاهد وثقت كبد الحقيقة، وكشفت وجه "لميس" الساخرة، والفاتنة "خولة" الممدودة، والفيلم البوليودي، وأسامي كثيرة تفوق العشرة، ضمنهم "فهد" مصور "باباراتزي" اعتاد على بث مثل هذه المشاهد الخاصة، فلا هو من الشرطة ولا هو من المهنة لكن بينهما، فلو حذقوا في اللوحات الزيتية في بيت "رشيد" لرأوا أنها عين راصد.
أرشيد بريء؟ طبعا! لقد نسج لعبة داخل اللعبة.
الكاتب: عبد الله أموش
** الصورة رسمتها ببرنامج للذكاء الاصطناعي

إرسال تعليق