U3F1ZWV6ZTQxOTk0ODg5NDUwMzQyX0ZyZWUyNjQ5NDAwNzU5OTU2NQ==

تشابولا

 


   ولأن العين لا تُخطئها عين، فتمت عينُ ماء تُحدق فيها عينُ "جمال"، وتتملى ببهاء جمالها، وروعة ينبوعها، وعذوبة مائها. فكان يغترف منها، ويتلذذ بمذاق مياهها، تلذذ المريد الولهان المرتوي من لذة الحلول والتوحد في الأفلاك السابحات. فجأة رمى "حسان" حجرة في العين، فانكسرت صورة "جمال" المرتسمة على مرآة الماء. تهشم الزجاج اللامع، وتغدرت العين الباهية، واستحال صفاؤها غوارا، وانقطعت لذة الاتصال بالعوالم العلوية.

لقد أَلف "حسان" هذه العادة السيئة، فكأنما وُضعت لذته الكبرى في تعكير المزاج وتغوير المياه. ولأن تغيير الصحراء أهين من تبدل طباعه، فقد كان "جمال" يدفع حمقه بالتغاضي، لطول سنوات الصداقة، وتقدير فضيلة الصحبة، فلطالما غمزه: "أنت تحب الصيد في الماء العكر"، فيجيبه "أنت تغتر بانعكاس صورتك فأكسر تكبرها على ماء عين الصقر".

عين الصقر هذه كما يلقبها الجميع، كسبت شهرتها من نقش قديم منصوب في كبد صخرة ملساء تتدفق منها وتحتها الينابيع الدافئة. ما نظر إليها ناظر مدقق إلا لقبها بذاك دون تردد. حبور وسرر يغمر المرتوي من شهدها، فكانت تزحف إليها كل ذات روح لترتشف رشفة الحياة، من نبع الصاف في صحراء مقفرة تحوز في أحشائها زواحفا ودوابا كثيرة، تناديها فتسعى إلى عينها ملبية نداء الحاجة.

استغرقا في الحديث استغراقهم في مدح العين، حتى كادا ينسيان وصول دورهما في الحراسة. ما ذكرهما بقربها إلا ضب أطل برأسه من تلة مقابلة بين شدقين، رافعا رأسه إلى السماء، والألوان الزاهية تضفي عليه صبغة الفخامة، أخضر وأصفر وأسود وليموني وبني. تتدرج على جسمه تدرج ألوان قوس قزح في فلوات السماء. حينها سولت لهما نفسيهما أن يطارداه حتى يجعلاه وجبة دسمة لليلة دامسة، لكنهما تذكرا وقت الحراسة.

حَمل "جمال" قربة ماء مدبغة من جلد معز، وعلى أثره مشى "حسان" يحمل قُلة مياه من طين على ظهره، وهرعا إلى مقر قريب من هضبة يرى من فوقها كل شيء. تحرر "جمال" من ثقله بعد تعليق قربته في حبل متدل من جدوع ثلاثة. لبس بزته العسكرية، وأخذ سلاحه وأدخل مخازن رصاص في جيوب صدرية تلتصق بأعلى بذلته.

وفي غرفة أخرى كان "حسان" قد أخرج بذلته بين حجرين أملسين تكفلا بكيها على عادة من لا يحوز مكواة فحمية في ذلك الحين. لبسها وحمل سلاحا يكاد يتلاشى من طول الاستعمال. تشوف في كوة، ثم نظرة في صرة، فلما حصل له ما يطمئن فؤاده خرج للحراسة، وكانت الشمس تتلاشى في الآفاق.

والشمس تميل نحو الغروب، تناول "جمال" من على هضبة كاشفة لفخذ المكان، مقرابا ينظر فيه إلى النواحي. ظل يتفنن في ضبطه ومحو ضبابيته، حتى استوى على رؤية صافية. نظر عبره نحو جهة اليمين ثم ناحية اليسار، فلم يظهر له ما يريب قلبه. والشمس تتدحرج في الآفاق نادى "حسان" في موجة قصيرة، أتذكر أول يوم وصلت فيه إلى هنا؟ أجابه: طبعا كيف أنسى وقد كان أول عملي معك حلق رأسك. وهما بين جد وهزل طال بهم الحديث، وفي عز الثلث الثاني من الليل، دخل تردد على الموجة فشوش محاورتهما، حينها انقطع صوت "حسان. 

رصد "جمال" من على الهضبة حركة غير عادية تتحرك في الأسفل، فجأة سمع في التردد القصير على اللاسلكي "فاطنة" الفاتنة، تقول يا "جمال" لنفعل التالي: اسمح للقافلة بالمرور ولك مني الوصال. ارتعش وحاول إنكار حتى اسمه، لكنها زادته لطمة أخرى على قفاه: نحن نعرف كل شيء عنك، عن صغيرتك "نهاد" الجميلة، وزوجك "عائشة" الحنونة، وجارك "المهدي" المجدوب.

فاطنة" الأسرة لقلوب الرجال، والمحررة لأفراد التنظيم، لا ترد يد لامس ولا تخيب عين ناظر، ظلت تحاول لدقائق علها تقنع "جمال" لأخذ تذكرة عبور سهلة بعيدة عن الضوضاء، و"حسان" يسمع غير آبه لما يقع لصديقه "جمال". طالت عروضها حتى بلغت تذكرة سفر، ومتعة جسد في فندق فخم بجزر الحسناوات، وخمس سبائك ذهبية.

وهما في أخذ ورد، تسلق "حسان" الهضبة متجها صوب "جمال"، واندفع غاضبا: "لقد طفح الكيل"، فقلب بندقيته حتى بدت خشبة مؤخرتها، فهوى بها على رأس "جمال"، لكن العتمة رمت بضربته على كتف "جمال" فأفلتت رأسه، عندها حمل حملته الهوجاء على صاحبه "حسان" بضربة أفقدته وعيه، ثم صاح على جثته قائلا: "من ارتوى من بئر الخيانة لا تنفعه رشفة من عين الصقر".

صب سبع رصاصات في كبد السماء، وصاح: "الثامنة سأودعها كلمسة تسري من صدرك الجميل نحو قلبك العفن يا فاطنة!". لما أحست أن الرجل لا يباع ولا يشترى وأن الرهان عن تحريك بيدقها قد انقطع، أرجعت القافلة، وكان على ظهور جمالها عتاد وغاز ومؤنة أيام، ومعهم أتان تعودت لحسن حظها أو لخبرتها على عبور حقول الألغام. وهي مقفلة بقافلتها، أخذ "جمال" يصفد صديقه، وقد أحيطت بالمكان مجنزرات ومصفحات وعتاد لا يحصى، ورجال استثارهم الرصاص المصبوب في جوف السماء.

اشتهرت قصة "جمال" على كل لسان، وأصبحت من نياشين الفخر على صدره، رغم مرارة الخيانة من أقرب أصدقائه. مضت المحاكمات في القضاء العسكري على "حسان"، حينها عاد "جمال" إلى بيته، فابتهجت به "عائشة" حيث استقبلته على الباب وضمته إلى صدرها، ورسمت قبلة على جبينه. ونادته "نهاد"، أبي بطل عين الصقر، وجرت نحوه فانحي وضمها إلى صدره. وظل هناك حتى اليوم الأخير من الأسبوع، وكان يوم أحد آثر فيه الخروج مع أهله نحو السوق الكبير.

كانت عين ترصد تحركاته منذ قدومه إلى المكان، وما كان له أن ينتبه للفجوة الأمنية فالمكان مكان هناء واستقرار. وهو يستعد للإقلاع بدراجته النارية بعد حمل بنته وزوجته عليها، تذكر نسيان قنينة ماء من عين الصقر. هم بدخول المنزل، وتعقبته بنته "نهاد"، فجأة سمعا صرخة دوى لها المكان، لقد كانت صيحة ألم وكأنها من انغراز سكين في القلب. نظرا فإذا السيدة "عائشة" مدرجة في دمائها. حملا جسدهما وركدا نحوها، فإذا بهما يلتقطا جزءا من وصيتها: "...فؤادي اهتم بنهاد".

وما كان لهذه الحادثة أن تمر دون أن تترك ندوبا في حياة "جمال"، وسلواه من "عائشة" "نهاد"، فكان يتردد عليه جاه الستيني "المهدي" وزوجته "لطيفة"، وكلما اشتد عليه الغم والحزن همس في أذنه: "يا بطل عين الصقر السيدة عائشة محترمة ويجب أن تكون قويا لبنتك، ولا يفل من عضده شيء من أجل الوطن". فيرد عليه: "وبنت نهاد قد تيتمت يا مهدي"، فيجيبه "نحن جيران، زد على ذلك أننا من جد واحد، فنهاد بنتنا كما هي ابنتك وسنكون لها كالأب والأم في غيابك".

رجع "جمال" إلى الرباط على الحدود، وتمضي الأيام حتى جاء أمر إصلاح "تشابولا" حيث يرقب الجند العدو والمهربين من أعلى الهضبة، فاستغلت "فاطنة" فراغ الهضبة من الحراسة ونزولهم أسفلها، فحاولت الالتفاف على الهضبة لتمرير قافلتها المحملة هذه المرة بعتاد غير معهود. ولحسن حضها أن "جمال" لم يك ضمن دورة الحراسة لرفعة رتبته بعد موقفه البطولي، فقد كان يغط في نوم هادئ، حتى داهمت أحلامه السيدة "عائشة" وهي تناديه إلى "تشابولا"، ففرح بمجيئها أيما فرح، وهو يخطو درجات صعودا نحوها، أبصر دماء تنبع منها كالشلال، فلما خرت نحو الأرض، ظهرت "فاطنة" منتصبة خلفها.

استفاق من ذلك الكابوس المرعب، وهرع إلى الخارج ففزع الجند المرابط أسفل الهضبة، فاستل سلاح أحد الجند الأقل رتبة فأمره أن يتبعه للأعلى باللاسلكي وصعدا إلى تشابولا، لما أحس قائد القافلة بحركة غريبة توقف. همسا حاولت "فاطنة" حثه على عدم التوقف. تناول "جمال" اللاسلكي فتداخلت موجتها مع تردده، فسمعها تهمس عليهم الأمر، فعرفها من صوتها الرخم، فلم يسطع "جمال" إمساك نفسه، فقال: "أنت من جديد؟" فردت عليه في استفزاز: "هل استطعنا التفنن في ثقب حبيبتك "عائشة"؟

استشاط "جمال" غضبا، وأصبحت الدنيا لا تسع انتقامه، فطلب من الجندي إلهاءها. فما تركت جزئية من حادثة القتل ولا طريقة تخطيطها إلا أوردتها. وهي في سرد مطول لفيلم بطولي مشوق، أودع "جمال" رصاصة في صدرها هذه المرة كما وعدها أول مرة. فطوقت الحشود القافلة، وبدأت تحقيقات جديدة، فما بحثوا تحت حجرة ولا حصاة إلا وأطل "حسان" برأسه المشؤوم أسفلها. وكلما انفضحت قضية تضاعفت عقوباته. بعدها خمدت كل محاولات الاختراق.

بعد طول عمل وجد، تقاعد. ومع تجاوز "نهاد" سن العشرين، قصد "جمال" مدينةً تمركزت فيها كل الخدمات. حاول الوصول لمؤسسة اجتماعية علها تمديد فترة استفادة ابنته "نهاد" من الخدمة الصحية. في اليوم الأول انتشل النشالون حافظة ماله من جيبه، فردوها عليه من شهرته واستسمحوه. في اليوم الثاني نام على رصيف جنب المتسكعين والمتسولين وأطفال الشوارع. في اليوم الثالث وهو يهم بالخروج من بوابة أحد بوابة الأسوار التاريخية سمع ضجة، فتقفى أثرها حتى إذا بلغ مجمع العاطلين وجدهم يتحلقون حول سيارة فارهة، جميلة لامعة، يملكها سياسي براغماتي بارز.

تقدم إليه في شجاعة، وطرق زجاج السيارة بلطف. بانسيابية اندلف الزجاج فانجلى الرجل وبرز. بادره بالكلام، "هل تعرفني؟" تفحص وجهه بإمعان، فقال: "أنت الملقب ببطل عين الصقر؟"، حينها أدخله السيارة، وقد ورد من قصص المتحلقين أنه قبل رأسه. راح يقص عليه هزالة معاشه وتدهور أحواله، ومركزة الإدارة والمصالح، ومضى يذكره بفناء سنوات شبابه وانقضاء زهرة عمره في الحدود. فما وعده إلا بأن يرفع مطلبه للأعلى.

رجع لمنطقته فاستقبلته "نهاد"، فمضت أيام وشهور حتى ظن ألا فائدة من اللقاء ومن تصديق السياسي. انقطع أمله، وربما تدهورت حالته، فكانت جدران داره ستارة عيوبه ومؤنس مواجعه كلما تذكر السيدة "عائشة". وهو يشاهد التلفاز ورد خبر الزيادة في الحد الأدنى للمعاشات، ورفعة في الأجور، وتذليل للوثائق والملفات، فسر لذلك أيما سرور. ونادى على "نهاد" فسمعت شطر الخبر وتحققت منه على مواقع الشابكة، فارتمت عليه، ونادت في سرور: “أبي بطل عين الصقر انتصر في معركة المعاشات كما كسب معركة تشابولا".


الكاتب: عبد الله أموش


** الصورة كما صممتها ببرنامج الذكاء الاصطناعي

تعليقات
3 تعليقات
إرسال تعليق
  1. تحياتي الصحفي القدير عبدالله آموش

    ردحذف
  2. تحياتي الكاتب الجهبيد سي عبد الله

    ردحذف
  3. مزيدا من العطاء و التوفيق صحفينا المبدع

    ردحذف

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة