شاف "خالد" أمامه سفرة ممدودة، حساءٌ ساخن. بيضٌ بلدي. تمرُ المجهولِ. حليبُ المعز. خبزُ تَفَرنوت.. أخذ في فرك عينيه بعد نوم جفاه، وأغلق فاهُ من تثاؤب غلبه.
تحرك في خفة فغسل، ومسح، ومشط، ثم أقبل على المائدة فقبّل رأس الأب والأم وطبطب رأس الزوجة في حشمة، بعدها جلس على وبر خروف متقن الدباغة، وتربع على عادة الجنوبيين، فشربَ. وأكلَ. واحتسىَ بنهم.
أخرجت الزوجة "رقية" حقيبة رمادية، لها خرز جميل وأهداب متدلية، فوضعتها أمام "خالد"، وأرفقتها بابتسامة كأنها نسيم على خذ زهرة الغَلْبَاز. اختطف "خالد" تلك البسمة فخصها القلب كله، وكأن فؤاده يصرخ "بعدها ليأتي الموت إن شاء، فأنا قد ظفرت بالسعادة في كنهها". جرى حديث طويل بين القلبين، وخرست الألسن في محراب الكلام العاجز عن بلوغ كنه الوجدان.
فجأة انقبض الجانب الأيسر من عضدِ "رقية"، فكانت تفركه بلطف. ثم شعرت بخفقان القلب. بعدها انقلاب في الخاطر. تمتمت بكلمات في خلدها: "خيرا إن شاء الله". ورجعت إلى الغرق في حديث القلب والوجد وإدمان النظر. ولم تبد له عدم رضاها عن سفره. فعمد إلى الحقيبة فأودع فيها أوراقا إدارية، وأرفقها بقلم حبر جاف، ومسطرة متآكلة الجوانب.
لبس "خالد" معطفه البني الفاتح. واستقبل اليوم الأول من عقده الرابع. ومازال في عنفوانه وترزنه. خرج من غرفته فقصد أباه "محمد" فقبّل ثانيةً رأسهُ، واستجدى دُعاءه. أردفه بتقبيل رأس أمه "عْرْبِية"، وسألها مدد الدعاء. ثم انحنى فحمل حقيبته. رافقته "رقية" نحو الباب، وفي إحدى انعطافات المنزل الكبير وما أكثرها، وعلى غفلة من الجميع اقتنصت منه قبلة في الجبين، وارتماءة في الحضن، ونظرة حنان مجملة بدمعة حارة. مضى هذا المشهد على إيقاع تغريدة عصفور "تَمْبْشرتْ"، وصفير بلبل "تَزُكِي"، وهدير حمامة "تِمِلِيتْ"، وكلها بلهجة تَشلْحِيتْ الأمازيغية.
قصد "خالد" محطة المسافرين، فوجد حافلة "طاس" رابدة في المكان، اقتنى تذكرة ببضعة دراهم، وتموضع في مكان من الجهة اليسرى بالحافلة، على خوف من شمس طاطا الحارقة. كانت الوجوه مألوفة فهذا "الحسين" خراز قرية تيرشت، وهذا "علي" نجارة قصبة تمنارت، وذاك "حامد" جزار ناحية فم الحصن، وذلك فلاح من طاطا.. تعارفوا. تحاوروا. وتبادلوا أطراف الحديث.
والحافلة تمخر عباب طريق بورية، تسلل غبارها داخل الحافلة، فتسمع بين الحين والأخرى عطسات "حامد" أو سعال "الحسين"، من حساسية الغبار. استمر الأمر على هذا النحو إلى أن صُدم الجميع بفرملة قوية. كان فوهة بندقية "الكلاشينكوف" مصوبة نحو السائق، فلم يجد بدا من فرملة خضخضت بطون المسافرين، وصدمتهم بأطراف الكراسي، وكاد تقذف بمرافق السائق من الزجاج الأمامي للحافلة.
صرخ مرافق السائق "زاريو" قادم، حينها فهم الجميع أنهم قد وقعوا في فخ مليشيا جبهة البوليساريو، "زاريو" كما ينطقها الأهالي هنا. تجمدت العروق، وخفقت الأفئدة، ووجلت القلوب. فصعد عناصر الميليشيا يمتحنون المسافرين بورقة مكتوب عليها "أنا متعلم"، حينها تفطن "خالد" للعبة. فأخذ الحقيبة الإدارية، وأودعها في أسفل الكرسي، وبدأ يضغط على نفسه بصعوبة لخفض النبض، ودفع الخوف، والظهور في حالة طبيعية.
وصل دور "خالد" في الامتحان فأمدته "حسناء"، الممسكة بندقية محشوة بالرصاص، أمسكها "خالد" فقلبها رأسا على عقب، وأخذ يتهجى بصعوبة "م ل ع ت م. ل ن أ"، فلم يكد يرجعها إليها حتى هوت على أم رأسه بصفعة دوى لها جبل باني الشامخ. وصاحت "حسناء": "أنت لا تعرف حتى القراءة، ولم تدر أنك قلبت الورقة، فكيف نأخذ معنا أميا يصبح عالة علينا وعلى خيامنا". ثم صفعته "نضال" العرجاء على قفاه.
انشرح صدر "خالد" فقد نجا حين تم اقتياد كل مسافر أظهر مهاراته في القراءة إلى المخيمات، وكعقوبة من "زاريو"، أو ربما هي هدية من السماء، فُرض على "خالد" ونزر يسير من مرافقيه العودة على الأرجل، بعد إحراق الحافلة. حينها بدأ الجميع في المسير، فأنساهم فرح اللحظة بُعد الطريق، فما كان بينهم خائن ولا واشٍ. طووا الطريق بالمشي حينا، والجري حينا. في تلك الأثناء شعرت "رقية"، التي كان طيفها يحلق فوق جبال باني، بانفراج بعد انقباض.
والحال هكذا لساعات طويلة، إلتفت خالد إلى وضعه أخيرا، فشعر بندبة على خذه من جراء الصفعة، فشعر بوشم من انغراز سلك خارج من خاتم المليشياوية "حسناء" المغرورة. أخذ "خالد" خلال استراحة قرب شجر الطلح، ورقات من شجرة السدر فدقها بحجر أملس وذهنها على جرحه، ثم جمعوا بعض "النبك"، وواصلوا المسير، إلى أن بلغوا مشارف المنطقة.
ولج "خالد" إلى المنزل، والوجوه مصوبة إلى جرحه، فأخذ يقص عليهم الواقعة، قَصّهُ للأحجية. حينها فهمت "رقية" سبب انقباض الصدر، وخفقان القلب، وتورم العضد. وفرح أهل الدار بالنجاة، وتذكروا من تم أخذهم إلى المخيمات بحسرة. ما هي إلا هنيهات حتى انشر الخبر انتشار النار في الهشيم، فقدم القائد والخليفة. العسكري والمقدم. أهل البلدة والغرباء، سألوا فأخذوا الجواب ثم انصرفوا. أصبحت القصة حديث القاصي والداني.
ولما رأت "رقية" جرح "خالد" قد عُولج على عجل وبأوراق الشجر، دخلت لغرفتها وأخرجت مرهما من صندوقها، وجاءت تداوي زوجها، وتمرر يديها بلطف، وتعاتب نفسها على عدم إصرارها على منع سفره، بعد تنبئها بمصابه. كانت تغرق في تفكير عميق، ثم رجعت إلى نفسها تخبرها أنه على الأقل رجع بالحيلة، ودفع عن نفسه السجن لـ23 سنة في المخيمات، عكس أقرانه الناجحين في امتحان القراءة.
الكاتب: عبد الله أموش

قصة محبوكة بشكل جيد، تستحضر معاناة الساكنة من جهة و تبرز ثقافتهم و لغتهم من جهة ثانية، وفقكم الله سي عبد الله
ردحذف