عندما كان المبدع ابن خلدون يؤلف مقدمته
الرائعة، كان بذلك العمل الرائد يؤرخ لخروج الأمة الإسلامية من مصاف الحضارة
الإنسانية، وفق السنن الكونية الحاكمة. حينها وصلت الأمة إلى نفق، أو إلى مرحلة
اصطلاح على تسميتها في تاريخ التشريع الإسلامي بمرحلة الركود والجمود، استمرت
لقرون عديدة كبركة ماء آسن لم يحرك ركود ماءها إلا رواد النهضة العربية الحديثة.
بالحق كانوا روادا بالنظر إلى ما وصلوا إليه من أفكار رائدة، مقارنة بعصرهم -وجزء
من عصرنا كما سنبين في حينه- كأنهم ولدوا لغير ذلك العصر، لكن مع مجيء حركة
الإخوان المسلمين وتحت ضغط الواقع الجديد؛ سقوط (الخلافة العثمانية)، وقعت ردة
كبيرة، وانحصرت تلك الأفكار فبقيت رهينة بعض النخب والمكتبات، وان حاول أمثال محمد
عمارة ومحمد عابد الجابري.. استرجاعها في إطار إعادة القراءة أو استدعائها بغرض
المراجعات الفكرية أو حتى بغرض التصنيف الإيديولوجي الضيق.
وبعد عدة سنوات اقتضت ملامسة الحركة
الإسلامية لهموم الناس في نطاق المعارضة أو في إطار التصدي لمشاكلهم في إطار
التسيير، وتحت ضغط الواقع مرة أخرى باعتباره لا يرتفع، اقتضى كل ذلك مراجعات
عديدة، أدت إلى استخلاص نتائج كانت بمثابة خلاصات لأولئك الرواد. وانتقلت الحركة
الإسلامية في المغرب قبل المشرق، إلى رفع شعارات جديدة أقل حدة وأكثر موضوعية، في
إطار ما اصطلح على تسميته بالفكر البرجماتي. وهو نفس الفكر الذي اهتدى إليه حزب
العدالة والتنمية التركي من قبل، نتيجة خبرة زعمائه الطويلة في تدافعهم وتنافسهم
مع حماة القلعة الاتاتوركية.
فكم من الجهد والوقت يا ترى أضاع أرباب
الحركات الإسلامية ليُقدموا على تلكم المراجعات، التي كتبت بالدماء أحيانا
وبالتعذيب والسجون أحيانا أخرى، وقطعت على إثرها رؤوس ظنت أنها تجاهد في سبيل
الله، وكم من الدموع ..، والمشانق..، والتعذيب..، والسجون..، من أجل التزحزح عن
فكرة بسيطة رأى بعض من يعتنقها أن تراجعه عنها بمثابة هزيمة للإسلام. فأين الإسلام
؟؟؟
وهل يكفي الناس الذين فقدوا أعز ما يملكون،
أن يبرر لهم رؤساء الجماعات الإسلامية في إطار تلك المراجعات؛ بالقول أخطأنا في
تلك الحقبة التاريخية؟؟
طبعا سيكون ذلك كمن سجن نصف عمره أو يزيد
بتهمة القتل، ويتبين بعد انقضاء حكم سجنه بأنه ليس المجرم، فيُعتذر له بالقول
نعتذر وجدنا القاتل الحقيقي، فهل ينفعه ذلك الاعتذار؟؟
أو سيكون كالعالم جاليلو الذي أكد دوران
الكرة الأرضية، فأُديرت المشنقة حول عنقه، ليكتشف لاحقا بأنها تدور، فما ينفعه
اعتذار الأوروبيين والكنيسة بعد موته.
طبعا لن ينفع جاليلو الاعتذار، ولن تنفع
الذي اتهم بالقتل المعذرة، لكن الذي سينفع هو المعرفة أي معرفة أن الحقيقة لا
تحتكر، وأن فكرة من واحد قد تكون صحيحة من جمع غفير، و أن الحق لا يعرف بكثرة
الأصحاب والأتباع، وأن الأحكام في العلوم الإنسان لا تفيد اليقين، وأن حكم الله
يعرف من كتابه وأن ما عداه حكم إنسان ينتابه الخطأ والصواب، وأن الأحكام المسبقة
لا تقوم أمام الدليل المقنع، قال تعالى:(هل عندكم من علم فتخرجوه لنا).. طبعا
الاعتراف بالحق فضيلة.
ليت شعري بعد كل هذا السنوات من الضياع، تصل
الحركة الإسلامية في مقاربتها للدولة المدنية إلى خلاصات عبد الرزاق الذي من قبلُ
فُسق وبُدع.
وبعد كل هذه السنوات من التيه، تصل الحركة
الإسلامية إلى قناعة إشراك المرأة في التنمية والحكم، على غرار ما كان يوصي به
قاسم أمين والكواكبي وسعد زغلول.
وبعد كل هذه السنوات من التصادم، تتحدث
الحركة الإسلامية عن الحرية واحترام حقوق الإنسان، على صورة ما كان يدعو إليه
رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني.
ليت شعري كيف يحرر الأزهر الشريف وثيقة
الحريات بنفس وروح محمد عبده الذي ناضل من أجل إصلاحه.
يا ترى من المخطئ ومن المصيب؟ أم أن رواد النهضة سبقوا زمانهم بكثير؟؟
ما الذي تغير فالبارحة الديمقراطية كفر واليوم حلال؟؟ وهل للواقع كل هذه القوة على النسخ والإثبات؟؟
وصلت الحركة الإسلامية إلى الحكم، وباشرت في
ممارسته بكل ما لها من تجارب وخلفيات مرجعية، وبمباشرتها للسياسة ستخرج من دائرة
الحلال والحرام إلى دائرة الصواب والخطأ والمصلحة في إطار الاجتهاد البشري.
طبعا الحركة الإسلامية لن ينفعها الفكر
السياسي الإسلامي أو ما اصطلح على تسميته بـ"السياسة الشرعية" لأن ما
حُرر منه إلا القليل؛ لأسباب تاريخية معروفة، والقرآن باعتباره كتاب هداية لا كتاب
سياسة، تضمن قيما إنسانية عامة مشتركة متداول عالميا يُنطلق منها لبناء الجزئيات
والنظريات السياسية، ونص على حقوق إنسانية لم تخرج عن المتعارف عليه عالميا.
**نشر في بواسطة 10 فبراير 2012، انقر على الرابط هنا

إرسال تعليق